تمكين قادة الأمن السيبراني: خطوة استراتيجية نحو المستقبل الرقمي للمملكة
جريدة الرياض -

في ظل التحولات الكبرى التي تشهدها المملكة العربية السعودية، لم يعد الأمن السيبراني مجرد مسألة تقنية تُناقش خلف الشاشات، بل أصبح جزءًا أساسيًا من مناقشات مجالس الإدارة، نظراً لدوره المحوري في تعزيز الثقة بين مختلف الأطراف: الحكومات والمواطنين، البنوك والعملاء، ومقدّمي الخدمات والمستخدمين.

وفي ظل سعي المملكة للانطلاق والمضي قدماً في تحقيق أهداف رؤية 2030 من خلال إعادة تعريف بناء المدن الذكية وتحويل الاقتصادات وإعطاء الأولوية لتقديم خدمات عامة رقمية، يتواصل السباق لتحقيق الأمن مع الحفاظ في الوقت نفسه على هذا الزخم الرقمي الذي قد تصاحبه مجموعة من المخاطر غير المسبوقة.

صرح سامر عمر، مدير قسم الأمن السيبراني والثقة الرقمية في بي دبليو سي الشرق الأوسط، قائلاً: "الأمن السيبراني لم يعد شأناً فنياً فقط، بل أصبح من دعائم النهضة الوطنية. ومع تسارع التحول الرقمي في المملكة، أطلقنا برنامج CISO500 لتأهيل جيل جديد من القادة القادرين على إدارة المخاطر السيبرانية، وتعزيز المرونة، وحماية القيمة المقدمة للعملاء. البرنامج يهدف إلى إعداد كفاءات وطنية تكون العمود الفقري للمستقبل الرقمي في السعودية."

وتأتي كلمات سامر في توقيت يمر فيه كل قطاع تقريباً في المملكة بمرحلة تغيير جذري شامل بدءاً بالقطاع المالي وقطاع الطاقة وانتهاء بقطاع الرعاية الصحية وقطاع الترفيه. ويصاحب هذا التغيير الشامل ظهور هجمات رقمية على مستوى أوسع وأشد تعقيداً. تتكامل البنية التحتية الحديثة مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والأنظمة التشغيلية الذكية. ورغم أن هذه التقنيات تسرّع وتيرة الابتكار، إلا أنها تضاعف حجم المخاطر والتهديدات السيبرانية وتعقيدها.

ويفسر سامر ذلك بأن "المشروعات العملاقة ومبادرات المدن الذكية بالمملكة تقوم على مجموعة من التقنيات الناشئة، ولكن هذه التقنيات تزيد من حجم المخاطر"، مضيفاً "إننا نرى مزيداً من أصول تقنيات المعلومات والتقنيات التشغيلية وإنترنت الأشياء في مختلف القطاعات، ما يؤدي إلى ارتفاع هائل في التهديدات السيبراني من حيث سرعتها ومستوى تعقيدها ومعدل تكرارها. وحل هذه المسألة لا ينحصر في استحداث مزيد من الأدوات وإنما يتجاوز ذلك إلى تحسين مستوى القيادة".

وفي ضوء هذه التطورات، يأتي برنامج CISO500 كمبادرة نوعية أطلقتها بي دبليو سي الشرق الأوسط بالتعاون مع sirar by stc لتمكين 500 من الكوادر المتخصصة في مجال الأمن السيبراني في المملكة بالتدريب الفني والإتقان الاستراتيجي والحضور التنفيذي. وتمثل الدفعة الأولى من خريجي البرنامج التي تتألف من 19 خريجًا من القادة المتخصصون السعوديون الذين وقع عليهم الاختيار من بين أكثر من 1000متقدم. ويأتي المشاركون من قطاعات حساسة مثل القطاع المصرفي، والطاقة، والرعاية الصحية، والعقاري، وهيئات القطاع العام.

ولا ينحصر الهدف من البرنامج في مجرد منح شهادة معتمدة، بل يتجاوز ذلك إلى إحداث تحول حقيقي في قطاع الأمن السيبراني بالمملكة. فعلى مدى خمسة أيام، كرس المشاركون جهودهم للتعامل مع سيناريوهات واقعية وحضور ورش تعاونية تتناول موضوعات مختلفة مثل المرونة السيبرانية والحوكمة والمخاطر السيبرانية وأمن الذكاء الاصطناعي وخصوصية البيانات. هدف إعادة صياغة دور مدير الأمن السيبراني ليصبح ليس مجرد مشرف على العمليات التشغيلية، بل سفيراً للثقة داخل المؤسسة.

ويأتي هذا التحول بشكل غير مسبوق، حيث تشير الأرقام إلى أن 87% من المؤسسات السعودية تعتزم الاستعانة بالذكاء الاصطناعي التوليدي ودمجه في منظوماتها الدفاعية السيبرانية هذا العام، ولا شك أن هذا تطور محمود، ولكنه في الوقت نفسه يطرح تساؤلات حول أخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي وحوكمته. وفي ظل شروع المهاجمين السيبرانيين في استخدام الذكاء الاصطناعي كسلاح، يتعيّن على المؤسسات أن تمضي بخطى حذرة، محافظةً على التوازن الدقيق بين الابتكار وإدارة المخاطر.

في هذا السياق يقول سامر إن "الذكاء الاصطناعي تحول إلى سلاح ذو حدين، حيث يمكن استخدامه في تعزيز الدفاعات السيبرانية، إلا إنه في الوقت نفسه يمنح الخصوم أدوات جديدة لاختراق النظم بشكل أسرع وأذكى. ويكمن التحدي هنا في التحلي بالمسؤولية عند دمج الذكاء الاصطناعي في النظم السيبرانية وتوفير القدر الملائم من الحوكمة ونزاهة البيانات والبروتوكولات الأمنية المحكمة بشكل أولي".

ويؤكد سامر أن الأمن السيبراني يجب أن ينظر إليه على أنه أحد عوامل تمكين الأعمال، لا أن ينظر إليه على أنه عائق أو إجراء شكلي، بل أداة حيوية لبناء الثقة وضمان الاستمرارية واستغلال كامل الإمكانات الرقمية المتاحة بالمملكة.

لقد أصبحت الثقة الرقمية العملة الجديدة من نواحي متعددة، حيث إنها تحدد كيفية تفاعل المواطنين مع الخدمات العامة، وطريقة اختيار المستهلكين للعلامات التجارية، وتقييم المستثمرين للمخاطر. ومع ذلك، فإن الثقة مسألة حساسة؛ إذ بمجرد فقدانها يصعب استعادتها.

وفي هذا السياق، يشير سامر إلى أن هجوماً واحدًا باستخدام برنامج فدية أو من خلال اختراق البيانات قد يكون كفيلاً بتبديد سنوات من الثقة. ولذلك، تسعى المؤسسات الرائدة إلى رفع مستوى الأمن السيبراني، وحماية الخصوصية، وتعزيز المرونة لتصبح أولويات استراتيجية مترابطة، تدخل في صميم عمل مختلف الإدارات.

لكن رغم أهمية الأنظمة والتقنيات, يظل العنصر البشري هو الحلقة الحاسمة في منظومة الأمن السيبراني. فمع ارتفاع الطلب العالمي على الكفاءات في مجال الأمن السيبراني إلى مستويات غير مسبوقة، تسعى المملكة العربية السعودية جاهدة إلى سد فجوة المهارات التي تعاني منها، لاسيما وقد تجاوزت وتيرة التحول الرقمي قدرة المسارات التقليدية على تأهيل الكوادر. ومن هنا يأتي دور برنامج CISO500 الذي يهدف إلى المساهمة في سد هذه الفجوة من خلال تأهيل الكوادر المحلية، وتوجيه قادة المستقبل، ودعم مشاركة المرأة التي تشكل بالفعل 32% من القوى العاملة الوطنية في الأمن السيبراني.

وعلى الرغم مما سبق، يرى سامر أن هناك حاجة إلى بذل مزيد من الجهد بقوله: "يجب أن نتوقف عن النظر إلى كوادر الأمن السيبراني على أنهم مجرد مجموعة تابعة لقسم تقنية المعلومات، بل هم قادة يتطلب عملهم مجموعة فريدة من المهارات الفنية، إلى جانب إلى التمتع بحنكة في مجال الأعمال، والذكاء العاطفي، والقدرة على توضيح المخاطر بأساليب تسهل على مجالس الإدارات فهمها واستيعابها. وهذا يستلزم اعتماد نماذج تدريبية جديدة، وأطر عمل تشغيلية مبتكرة، وحوافز جاذبة لاستقطاب أفضل الكفاءات والاحتفاظ بها."

وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي سيساعد في مكننة بعض المهام، يرى سامر أن الآلات لا يمكن أن تحل محل العقل البشري، أو التفكير الأخلاقي، أو القيادة على مستوى مختلف الإدارات.

ولا شك أن ما تشهده المملكة حالياً من تطورات يمثل نموذجًا جديدًا يدمج الأمن السيبراني في صلب رحلة النمو التي تخوضها المملكة، ويعزز من الثقة في تصميم الأنظمة والخدمات المقدمة وكل نقطة تواصل مع المواطن. وفي هذا الإطار، تتحول قيادات الأمن السيبراني من مجرد حماة للبنية التحتية إلى رعاة للانطلاقة الوطنية.

واختتم سامر حديثه قائلاً: "نحن لا نواجه تحديات اليوم فقط، بل نبني القدرات القيادية لاستشراف المستقبل واتخاذ القرارات بثقة وسرعة ووضوح، نحو تحقيق الأهداف الوطنية الطموحة."



إقرأ المزيد