عين ليبيا - 7/7/2025 8:30:20 PM - GMT (+2 )

لا يمكن لأي أمة أن تبني مستقبلها وهي تتنكر لماضيها، ولا يُعقل أن تُؤسس دولة حديثة بذاكرة مبتورة. هذه ليست حكمة نظرية، بل درس تاريخي أثبتته تجارب الشعوب جميعًا، فالتاريخ ليس سلعة قابلة للفرز بين “جيد” و”سيئ” وفق المزاج السياسي، بل هو مادة خام تُصقل بها هوية الأمم، وتُبنى على أساسها مفاهيم الدولة والشرعية والانتماء.
في ليبيا، وبعد 2011، ظهرت موجة فكرية وإعلامية حاولت أن تبدأ من الصفر، تتعامل مع الماضي وكأنه عار يجب محوه، وتحديدًا مرحلة الجماهيرية التي امتدت لأكثر من أربعة عقود. ولئن كان من الطبيعي أن تنقد المجتمعات تجاربها السابقة، فإن ما حدث في الحالة الليبية تجاوز النقد إلى الشيطنة الشاملة، حيث بات يُنظر إلى تلك المرحلة وكأنها فراغ تاريخي يجب طمسه. لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من هذا التبسيط المخل.
نعم، مرحلة حكم معمر القذافي اتسمت بأخطاء كبرى؛ أبرزها غياب مشروع متكامل لبناء الدولة الحديثة، وإهمال البنية التحتية، وتعطيل قيام المؤسسات الفاعلة، بل وتسييس كل شيء تحت شعارات أيديولوجية لم تُترجم عمليًا إلى تنمية شاملة. وكان بالإمكان، بالنظر إلى الإمكانيات المالية والموارد البشرية، أن تتحول ليبيا إلى واحدة من أنجح دول المنطقة. هذا لم يحدث كما يجب، ويجب أن يُقال بوضوح.
لكن، في المقابل، لا يمكن لأي منصف أن يتجاهل أن تلك الفترة شهدت أيضًا منجزات مادية وبنيوية لا تزال آثارها ماثلة حتى اليوم. فأكثر من 70% من المدارس التي يتعلم فيها أطفال ليبيا اليوم شُيّدت خلال تلك المرحلة. الطرق العامة، الفنادق الكبرى، العمارات الشاهقة في طرابلس وغيرها، كلها شواهد مادية على وجود مشروع عمراني في فترة ما. بل إن المشروع الأضخم في تاريخ ليبيا، “النهر الصناعي العظيم”، الذي لا يزال حتى الآن المصدر الرئيسي لمياه الشرب لليبيين، هو من مخرجات تلك المرحلة.
وإلى جانب ما سبق من منجزات مادية داخلية، لا يمكن إغفال أن ليبيا، منذ طرد القواعد العسكرية البريطانية والأمريكية عام 1970، وحتى سقوط النظام في 2011، كانت واحدة من الدول القليلة في العالم التي لم تُدنّس أرضها أو سماؤها بأي وجود عسكري أجنبي. لم يكن على أراضيها جندي أمريكي أو بريطاني أو تركي، ولم تكن قواعدها أو موانئها أو مطاراتها رهينة لأي قوة خارجية، بل كانت خالصة للسيادة الليبية، وهذا وحده يُعدّ منجزًا استراتيجيًا ضخمًا في زمنٍ تتهاوى فيه سيادات الدول تحت الضغوط الدولية.
وليس ذلك فحسب، بل كانت السياسة الخارجية الليبية في تلك الفترة ذات فاعلية وتأثير إقليمي وقاري كبيرين. فقد لعبت ليبيا دورًا محوريًا في تحوّل منظمة الوحدة الأفريقية إلى الاتحاد الأفريقي، وكانت الدولة الأكثر حضورًا وقيادة للمشروع الإفريقي، سواء من حيث التمويل، أو من حيث المبادرة السياسية. بل إن ليبيا كانت وراء إخراج الكيان الصهيوني بالكامل من القارة الأفريقية، بعدما كانت له علاقات وثيقة مع عدد من الدول هناك، وهو ما يشهد له التاريخ السياسي المعاصر، ولا يمكن إنكاره تحت أي مبرر. أما جواز السفر الليبي، فكان في زمن من الأزمان يُعد من أقوى جوازات السفر على المستوى الإقليمي، يُحترم في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وكانت ليبيا تُعامَل كدولة ذات وزن استراتيجي حقيقي، لا كمجرد تابع في لعبة النفوذ الدولي.
إن حذف هذه المعطيات من الوعي الجمعي لا يخدم الحقيقة ولا الوطن. بل يخلق سردية مشوهة تجعل أجيالاً بأكملها تشعر بأنها وُلدت ونشأت في فراغ سياسي وتاريخي. فكيف نقنع شابًا في الثلاثين من عمره أن كل ما عاشه لا يستحق الذكر؟ أو أن أسرته كانت ضحية فقط لا شريكًا في بناء الوطن في ظروف معينة؟ التاريخ ليس أبيض وأسود، بل لوحة معقدة من الألوان، وكل حقبة فيها تستحق الفهم، لا الحذف.
ولننظر إلى تجارب دول أخرى. ألمانيا، بعد سقوط النازية، لم تُلغِ تاريخها، بل أنشأت معاهد ومتاحف لتدريس تلك المرحلة وتحليلها. لم تبرر الجرائم، لكنها لم تُخرِج جيلًا كاملًا من الذاكرة الوطنية. روسيا، بعد الثورة البلشفية، لم تتنكر للقياصرة تمامًا، بل استعادت رموزهم في الخطاب القومي لاحقًا. إسبانيا، بعد نهاية حكم فرانكو، أقرت ما سُمي بـ”قانون الذاكرة التاريخية” لتكريم الضحايا، لكنها لم تشرعن محو تاريخ بلدٍ بأكمله.
في ليبيا، نحن في أمسّ الحاجة إلى قانون للذاكرة الوطنية، لا للمحاسبة، بل للفهم والمصالحة. قانون يعترف بأن كل الليبيين، في كل المراحل، كانوا أبناء هذا الوطن، وأن كل تجربة – بغض النظر عن تقييمنا لها اليوم – قد ساهمت في تشكيل الشخصية الليبية المعاصرة. إن محاولة تفصيل التاريخ على مقاس اللحظة السياسية الراهنة، هي وصفة مؤكدة للانقسام الدائم.
نعم، كان من حق الليبيين الخروج والمطالبة بالتغيير. وهذا ما حدث في فبراير، وكان حدثًا محوريًا في تاريخنا الحديث. لكن الخطأ كل الخطأ، أن يتحول ذلك الحراك المشروع إلى مدخل لتدمير ذاكرة وطنية كاملة، ومسح كل ما سبق وكأنه لم يكن. فكيف نؤسس دولة في 2025 بينما نتعامل مع أكثر من 40 سنة وكأنها لم توجد؟
التاريخ ليس مجاملة، ولا مديحًا، بل مسؤولية. مسؤولية أن نقول الحقائق كما هي، بلا تزييف ولا تبخيس. إن الجيل الذي وُلد في 1969 هو اليوم في منتصف الستين من عمره، وهو جيل لا يجوز شطبه بجرة قلم. كما لا يجوز اتهام كل من عاش أو عمل أو بنى أو خدم في تلك المرحلة بأنه عدو للوطن.
نحن بحاجة إلى وعي جديد، يعيد تقييم التاريخ بعيون وطنية، لا بأحقاد أيديولوجية. إلى سردية وطنية جامعة، تتسع لكل الليبيين، دون إقصاء أو تعمية. فهذا الوطن لا يمكن أن يُبنى إلا إذا آمنا جميعًا بأننا، على اختلاف مراحلنا وتجاربنا، أبناء تاريخ واحد، ومصير واحد.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
إقرأ المزيد