حوت الأوركا في البحر الأحمر: الشاهد الجديد على تحولات المحيطات
جريدة الرياض -

في مياه البحر الأحمر الدافئة والغنية بالشعاب المرجانية، تم توثيق ظهور حوت الأوركا في محمية جزر فرسان بمنطقة جازان؛، هذا الحدث لم يكن عابرًا في سجل الأخبار البحرية البيئية، بل لحظة تستوقف المجتمع العلمي؛ إذ يُصنّف في الأدبيات المتخصصة على أنه (أنوماليا إيكولوجية) أي شذوذ بيئي نادر يشير إلى اضطراب مؤقت في أنماط التوزيع الطبيعي للكائنات. فالأوركا يُعرف في توزيعه العالمي بتفضيله المياه الباردة الغنية بالفرائس في المناطق القطبية والمعتدلة، ما يجعل عبوره إلى نطاق دافئ كالـبحر الأحمر حدثًا استثنائيًا يثير تساؤلات حول ديناميكيات المحيطات المتغيرة، ويضع المنطقة تحت مجهر الاهتمام العلمي الدولي.

فالأوركا عملاق بحري وأكبر أعضاء عائلة الدلافين؛ قد يبلغ طول الذكر 9 أمتار ويقارب وزنه 6 أطنان، وتشتهر زعنفته الظهرية باستقامة شاهقة قد تناهز 1.8 متر. وهو مفترس قمّي لا عدوّ طبيعيًا له تقريبًا، ما يجعله مؤشرًا حيويًا لصحة النظم البيئية التي يرتادها. وتزداد فرادته بذكائه الاجتماعي؛ إذ يعيش في قطعان منظمة تتواصل بمخزون صوتي غني يُكوّن لهجات مميزة لكل مجموعة. وفي سلوك الصيد، يظهر مستوى من التنسيق والتخطيط يعكس سلوكيات تعاونية تشبه تكتيكات الذئاب على اليابسة.

ويتنوّع غذاؤه بين الأسماك والحيتان الصغيرة والفقمات، وتشتهر بعض القطعان بقدرتها على شلّ أسماك القرش البيضاء مؤقتًا عبر قلبها رأسًا على عقب، ما يُحدث حالة (شلل توتري) تسهّل افتراس أكبادها الغنية بالدهون. هذا النمط الانتقائي في التغذية يفسّر انجذاب الأوركا إلى البحار الباردة ذات المخزونات الدهنية المرتفعة، ويجعل ظهوره في المياه الدافئة تحديًا فسيولوجيًا من حيث ارتفاع متطلبات الطاقة وانخفاض كفاءة الصيد نسبيًا.

وتشير دراسات حديثة في مجلة Marine Mammal Science (Durban et al., 2023) إلى حوادث مشابهة لهجرة الأوركا نحو مناطق أدفأ مؤقتًا، غالبًا بحثًا عن فرائس موسمية أو استجابة لتغيرات حرارية في التيارات الباردة. بناءً على ذلك، يمكن تفسير عبور الأوركا للبحر الأحمر إمّا كنمط عابر في رحلات استكشافية، أو كمؤشر لتحوّل أوسع في توزيع الفرائس الكبيرة في المحيط الهندي. وكلا الاحتمالين يحمل دلالات بحثية مهمة تستدعي توسيع الرصد لفهم حدود تكيف الثدييات البحرية الكبرى في بيئات حرارية مرتفعة.

وبرغم دفء مياهه، فإن البحر الأحمر ليس بيئة هشة. فقد كشفت الأبحاث مؤخرًا عن نظم بحرية تمتلك قدرة استثنائية على مقاومة الإجهادات الحرارية ونقص الأكسجين، ما يجعل المنطقة مختبرًا طبيعيًا لدراسة المرونة البيئية في ظل التغير المناخي العالمي. ويضيف ظهور الأوركا طبقة جديدة من الأسئلة حول آليات السلوك والتكيّف الحراري لدى الثدييات البحرية.

وإذ ما تكرّر ظهور الأوركا في مياه البحر الأحمر، فإن الحدث سيتجاوز حدود المصادفة البيولوجية إلى مؤشر بيئي متكرر يستحق المتابعة العلمية الدقيقة. فوفق دراسات منشورة في مجلتي Ciencias Marinas (Franco et al., 2021) وEcology and Evolution (Hutchings et al., 2025)، لوحظت حالات مشابهة لتوسع نطاق الأوركا نحو مناطق أكثر دفئًا في الكاريبي وأستراليا، ما يشير إلى قدرة بعض القطعان على التكيّف الحراري التدريجي وربما إعادة رسم خرائط الهجرة الموسمية تبعًا لتغيّر الفرائس أو التيارات المحيطية.

تكرار الظهور في البحر الأحمر قد يعني أن بعض المجموعات بدأت استكشاف ممرات غذائية جديدة مرتبطة بالمحيط الهندي، أو أن المنطقة تشهد تحوّلًا في توازن الفرائس الكبرى نتيجة لتبدلات المناخ البحري العالمي. وفي الحالتين، فإن البحر الأحمر سيغدو مختبرًا حيًا لرصد حدود التكيف المناخي لدى الثدييات البحرية، ما يستدعي تعزيز برامج الرصد الصوتي والتصوير الجوي وتبادل البيانات مع مراكز البحوث العالمية.

لكن تكرار الظهور أيضًا يضاعف التحدي أمام الجهات التنظيمية، إذ يعني تعاملًا أكثر استدامة مع الضجيج البحري، وحركة السفن، ومصادر التلوث الكيميائي لضمان بيئة آمنة تكفل بقاء هذا الكائن وحماية التنوع الحيوي الذي يعكسه وجوده؛ هذه الظواهر تضع البعد البيئي في صميم إدارة السواحل، حيث تتقاطع العلوم البحرية مع سياسات التنمية المستدامة.

وفي هذا السياق، يشكّل العبور النادر للأوركا نقطة ارتكاز إستراتيجية لتكامل أدوار الجهات الحكومية العاملة في بيئة البحر الأحمر، وفي مقدمتها الهيئة السعودية للبحر الأحمر بوصفها الجهة التي تتولى تنظيم وتطوير الأنشطة السياحية الساحلية. حيث لا يُتعامل مع الأوركا كـضيف عابر، بل كـمؤشر حيوي لسلامة البحر. فحساسيته العالية للملوّثات الكيميائية واضطراب حركة السفن تضع أمام الجهات المعنية مسؤولية مضاعفة لحماية البيئة البحرية والحد من مصادر الإزعاج، بما يضمن توازنًا بين استخدامات الساحل ومتطلبات الاستدامة.

ويرسّخ هذا الظهور الخاطف أن البحر الأحمر ليس مسطحًا معزولًا، بل حلقة وصل أحيائية تربط المحيط الهندي بالمحيطات الكبرى. وسلوك الأوركا الذي يبقى غير معروف بالكامل في هذا النطاق يحمّلنا مسؤولية وطنية متقدّمة للحفاظ على النظام البيئي البحري وحماية تنوّعه الفريد، ويؤكد أن الاستدامة في البحر الأحمر ليست التزامًا محليًا فحسب، بل واجبًا عالميًا تجاه أحد أروع الممرات البحرية على كوكب الأرض.



إقرأ المزيد